وقوله تعالى: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم} استئنافٌ وقعَ جواباً عن سؤالٍ نشأَ مما قبلَهُ من الحثِّ عَلى التَّقوى كأنَّه قيلَ كيفَ نعملُ بالتَّقوى في شأنِ المعتداتِ فقيلَ أسكنوهنَّ مسكناً من حيثُ سكنتُم أي بعضَ مكانٍ سكناكم. وقولُه تعالَى: {مّن وُجْدِكُمْ} أي من وُسعِكم أي مما تطيقونَهُ عطفُ بيانٍ لقولِهِ من حيثُ سكنتُم وتفسيرٌ لهُ.{وَلاَ تُضَارُّوهُنَّ} أيْ في السُّكنى {لِتُضَيّقُواْ عَلَيْهِنَّ} وتُلْجئوهنَّ إلى الخروجِ {وَإِن كُنَّ} أي المطلقاتُ {أولات حَمْلٍ فَأَنفِقُواْ عَلَيْهِنَّ حتى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} فيخرُجنَ من العدةِ، أما المُتوفَّى عنهنَّ أزواجُهنَّ فلا نفقةَ لهُنَّ {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ} بعدَ ذلكَ {فَئَاتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} على الإرضاعِ {وَأْتَمِرُواْ بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ} أي تشاورُوا، وحقيقتُه ليأمرْ بعضُكم بعضاً بجميلٍ في الإرضاعِ والأجرِ ولاَ يكُن من الأبِ مماكسة ولا من الأمِّ مُعاسرةٌ {وَإِن تَعَاسَرْتُمْ} أي تضايقتُم {فَسَتُرْضِعُ لَهُ أخرى} أي فستوجَدُ ولا تُعوزُ مرضعةٌ أُخرى، وفيه معاتبةٌ للأمِّ على المعاسرةِ {لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مّن سَعَتِهِ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا ءاتَاهُ الله} وإنْ قلَّ أي لينفقْ كُلُّ واحدٍ من الموسرِ والمعسرِ ما يبلغُه وسعُه {لاَ يُكَلّفُ الله نَفْساً إِلاَّ مَا ءاتَاهَا} جَلَّ أو قَلَّ فإنَّه تعالَى لا يكلفُ نفساً إلا وُسعَها وفيهِ تطييبٌ لقلبِ المُعسرِ وترغيبٌ لهُ في بذلِ مجهودِهِ وقد أُكِّدَ ذلكَ بالوعدِ حيثُ قيلَ {سَيَجْعَلُ الله بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً} أي عاجلاً أو آجلاً. {وَكَأَيّن مّن قَرْيَةٍ} أي كثيرٌ من أهلِ قريةٍ {عَتَتْ} أي أعرضتْ {عَنْ أَمْرِ رَبّهَا وَرُسُلِهِ} بالعُتوِّ والتمردِ والعنادِ {فحاسبناها حِسَاباً شَدِيداً} بالاستقصاءِ والتنفيرِ والمناقشةِ في كلِّ نقيرٍ وقِطْميرٍ {وعذبناها عَذَاباً نُّكْراً} أي مُنكراً عظيماً. وقرئ: {نكراً}، والمرادُ حسابُ الآخرةِ وعذابُها، والتعبيرُ عنهما بلفظِ الماضِي للدلالةِ على تحققِهِما كما في قولِه تعالَى: {وَنَادَى أصحاب الجنة} {فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عاقبة أَمْرِهَا خُسْراً} هائلاً لا خُسَر وراءَهُ.